الأبعاد الحضارية للغة العربية في الممالك الإسلامية التشادية

أولا: التمهيد :

تعريف موجز بالممالك الإسلامية التشادية

 شهدت منطقة حوض بحيرة تشاد ابتداء من مطلع القرن التاسع الميلادي نشأة وازدهار ممالك إسلامية عديدة أبرزها : مملكة كانم – برنو ، ومملكة باقرمي ، ومملكة وداي ، وقد ظلت هذه الممالك الإسلامية تبسط سيطرتها على الأراضي التي تكوّن جمهورية تشاد الحالية وماجاورها حتى مطلع القرن العشرين الميلادي ، وفيما يلي استعراض موجز لها:

1-   مملكة كانم – برنو :

ينقسم تاريخ هذه المملكة إلى عصرين بارزين ، هما : العصر الكانمي ، ويمتد من قيام المملكة، في منطقة كانم شرقي بحيرة تشاد ، عام 800 م إلي نهاية القرن الرابع عشر الميلادي(1) حيث حكمت أولا أسرة دوجو   ثم تلاها البيت السيفي ( نسبة إلى سيف بن ذي يزن )(2) ، وفيما بعد بدأت هجرات القبائل العربية تزداد إلى منطقة بحيرة تشاد ، ومن ضمنها ماذكره البكري   أن جماعة من بني أمية قد هربت إلى كانم خوفا من اضطهاد بني العباس لهم(3) وتقول بعض المصادر : إن أول من اعتنق الإسلام من ملوك كانم هو السلطان أومي جلمي  الملك الثاني عشر في عداد ملوكهم قبل الإسلام ، والأول بالنسبة لملوك الإسلام وكان حكمه في الفترة مابين عامي 497 – 490 هـ / من 1085- 1097م (4) وقد ساعد دخول القبائل العربية للمنطقة خاصة الموجة الأخيرة المتحضرة من الأمويين إلى تدعيم الوجود العربي ، وانتشار الإسلام في المنطقة ، وكل ذلك ساهم في توطيد دعائم الكيان السياسي للمملكة ، إلا أن المملكة بدأت تتعرض لهجوم من قبائل  الساو التي كانت تحكم منطقة بحيرة تشاد قديما ، غير أنها تمكنت من إحراز النصر عليهم ، ولكنها لم تلبث أن دخلت في نضال جديد مع قبائل البلالا( سكان منطقة بحيرة الفتري) . وهو النضال الذي اضطر المملكة في نهاية المطاف إلى تحويل قاعدة المملكة إلى منطقة برنو ، غرب بحيرة تشاد(5) وبذا يبدأ العصر الثاني لإمبراطورية كانم – برنو ، وهو العصر البرناوي ، عندما اضطر ملوك كانم إلى ترك عاصمتهم نجيمي بكانم ، والانتقال إلى أرض البرنو الواقعة غربي بحيرة تشاد تحت ضغط هجمات قبائل البلالة ، وذلك حوالي عام 1280(6) ، وقد تمكن ملوك كانم فيما بعد من إخضاع قبائل البلالة الثائرين ، وبسط نفوذهم على المنطقة الواقعة شرق بحيرة تشاد مرة أخرى، وتوحيد كانم وبرنو في إمبراطورية واحدة(7) وفي بداية القرن السابع عشر بدأ التدهور والانحطاط يدب في المملكة ، وواجهت خطرا جديدا ، هو خطر الفولانيين بزعامة الشيخ عثمان دان فوديو ، الذي قام بحركته القوية في تلك الفترة ، غير أن ظهور الشيخ عثمان دان فوديو ، الذي قام بحركته القوية في تلك الفترة ، غير أن ظهور الشيخ محمد الامين الكانمي في الساحة أنقذ المملكة من السقوط في ايدي الفولانيين ، ولكن مقاليد السلطة انتقلت من الأسرة السيفية إلى الشيخ محمد الأمين الكانمي وأحفاده بعده وأصبح يطلق على ملوك كانم – برنو منذ هذا الوقت صفة ( شيخ ) بدلا عن صفة ( ماي  ) التي كانت تطلق سابقا عليهم ، وفي نهاية القرن التاسع عشر بدأت طلائع الاستعمار الأوربي تطرق المنطقة وتزامن ذلك مع حركة الأمير رابح بن فضل الله الذي قدم من السودان الشرقي وبدأ في تكوين منطقة نفوذ خاصة به في المنطقة ، فغزا مملكة كانو – برنو عام 1893م مما دفع سلطانها إلى عقد تحالفات عسكرية مع القوى الاستعمارية الغازية ، وفي عام 1884م انتهى الأمر إلى تقسيم مملكة كانم – برنو بين فرنسا وإنجلترا والمانيا(8) بعد عمر دام حوالى (12) قرنا من الزمن .

2-   مملكة باقرمي :

تقع مملكة باقرمي في الجنوب الشرقي من بحيرة تشاد ، وعاصمتها مدينة (ماسينا) التي أنشأها السلطان ( برني بيسي ) حوالي عام 1513 م وهو أول سلطان عرف لهذه المملكة وكان وثنيا ويعد السلطان عبدالله بن مالو (1561 – 1602م ) أول سلطان مسلم (9) وقد وطد أركان الإسلام في المملكة وقوّاه .

وقد قامت المملكة على قبائل ( العرب ) و( الفلاتة ) و( الكانوري) بالإضافة إلى السكان الأصليين(10). ونسبة لوقوع هذه المملكة محصورة في مساحة ضيقة بين مملكتين طموحتين هما مملكة كانم – برنو ، ومملكة وداي ، كان تاريخها مشوبا بعدم الاستقرار إذ تعرضت للغزو منهما مرات عديدة ، وكانت تقع أحيانا تحت سيطرتهما .

وقد كانت نهاية هذه المملكة شبيهة بالنهاية التي تعرضت لها مملكة كانم – برنو حيث غزاها الأمير رابح بن فضل الله عام 1892م ، وأخل بأمنها الداخلي واستولي عليها ، فاضطرت إلى طلب الحماية من القوات الاستعمارية الفرنسية المرابطة في 0 اوبانجي شاري ) (11) التي قدمت وضمتها إلى محمياتها .

3-   مملكة وداي :

قامت مملكة وداي في المناطق التي تكوّن الأقاليم الشرقية لتشاد الحالية ، وكان بيت من التنجر يحكم تلك المناطق حتى أوائل القرن السابع عشر حيث تمكن الداعيةعبدالكريم بن جامع ( مجدد الإسلام ) الذي قدم للمنطقة من السودان الشرقي والذي ينتسب إلى العباسيين من انتزاع الحكم من الأسرة التنجراوية ، وكان قد بدأ أمره بالدعوة إلى الإسلام وعندما علا شأنه وتزايد أتباعه تمكن من هزيمة التنجر ، وإقامة مملكة إسلامية بمعاونة القبائل العربية التي كانت مستوطنة في المنطقة من عرب المحاميد والمهرية والنوايبة والعريقات وبني هلبة ، كما ساعدته في انجاز مهمته التحالفات التي عقدها مع العشائر الإفريقية من أهل المنطقة (12) وبعد ذلك اشتد تلاحق العرب وورودهم  على  البلاد من شتى النواحي السودانية (13) وقد شيد عبدالكريم عاصمة له أطلق عليها اسم ( وعرة ) والتي حرفت إلى ( وارا ) لوقوعها في منطقة وعرة محاطة بالجبال ، وقد ظل عبدالكريم يدفع ضريبة لمملكة دارفور طيلة فترة حكمه(1635- 1655م) جريا على عادة أسلافه التنجر ، وقد تمكن السلطان يعقوب عروس( 1681 – 1707م) من هزيمة الفوراويين وإسقاط الضريبة (14).

وفي عهد السلطان عبدالكريم صابون ( 1805 – 1813م ) غزت مملكة وداي مملكة باقيرمي ، وتكرر غزوها لها مرة أخرى في عهد السلطان علي بن محمد الشريف عام 1871م ، ولم تتمكن من الخلاص من سيطرتها ، حتي غزاها الأمير رابح بن فضل الله عام 1892 (15).

ويعد السلطان محمد الشريف ( 1835- 1858م) من أشهر سلاطين مملكة وداي، وقد هاجم مملكة كانم – برنو في عهد شيخها الشيخ ( عمر بن محمد الأمين الكانمي ) وبسط حمايته عليها ثم عقد صلحا مع الشيخ عمر ، خرج بموجبه من برنو مقابل دفع ضريبة سنوية (16).

وقد نقل السلطان محمد الشريف عاصمة المملكة عام 1850م من ( وارا ) إلى مدينة أبشه ، التي تقع على بعد ستين كيلومترا جنوبا منها ، فمدينة ( وارا ) وإن كانت في موقع حصين إلا أنها معزولة بسبب وعورة المكان وسط الجبال ، ولذا فإن هذه الخطوة قد جعلت العاصمة في منطقة مفتوحة في معبر القوافل والمؤثرات الحضرية .

وقد تمكنت مملكة وداي من صد هجمات الأمير رابح على أطرافها ، وبالتالي دفعته بعيدا عنها إلا أنها ترنحت تحت ضربات القوات الاستعمارية الفرنسية الغازية ، التي تمكنت في النهاية من احتلال مدينة أبشه عاصمة المملكة في 2 يونيو 1909م

هذه هي الممالك الإسلامية الثلاث التي قامت منذ العصور الوسطي في المنطقة التي تقع فيها جمهورية تشاد الحديثة ، وكان توجد بجوارها ممالك إسلامية أخرى صغيرة مثل مملكة البلالة ، ومملكة لوقون لم نتعرض لها خشية الإطالة ، وقد كانت هذه الممالك في حالة تفاعل وتأثير وتاثر مع أقطار العالم الإسلامي ، من جانب آخر تفاعلت فيما بينها بالتبادل الاقتصادي والثقافي والاتفاقات والمعاهدات ، وطورا كان تفاعلها فيما بينهما بجولات المعارك والحروب، وهذه الممالك بتاريخها الأصيل وحضاراتها العريقة هي التي صاغت هوية تشاد الحديثة وثقافتها ، يقول الدكتور عبدالرحمن عمر الماحي : ( وكان قد اعترى كانم – برنو ، ووداي ، وباقرمي ، الضعف بسبب الحروب التي دارت بينها، فاضطرت في النهاية إلى الرضوخ أمام القوى الغربية ولكنها أعطت لتشاد كيانا حضاريا وسياسيا ظل باقيا إلى جانب النظام الفرنسي الجديد ، على الرغم من عدم  الاهتمام به كتراث قومي (17).

وهناك إجماع بين الباحثين  على اشتراك هذه الممالك في قواسم عدة منها :

أولا : اتخاذ الشريعة الإسلامية مصدرا لقوانينها وتشريعاتها ومحاكمها ، ومرجعا لضبط شئونها الاجتماعية .

ثانيا : جعل اللغة العربية اللغة الرسمية في كل مملكة ، واستخدامها في الدواوين والمراسلات والتعليم.

ثالثا : أن اللغة العربية أصبحت اللغة العامة والشائعة التي يستخدمها أفراد الشعب في اللقاءات العامة والأسواق ، ويبين ذلك أن هذه الممالك باستخدام اللغة العربية تمكنت من إقامة حضارات ظلت توجه شعوبها منذ زمن بعيد ، ومازالت تعد المنبع الاصيل للشعب التشادي، ويؤكد هذا الإجماع مجموعة ضخمة من الوثائق والمخطوطات والمؤلفات التي  خلفتها هذه الممالك الإسلامية ، وواقع تشاد خير شاهد على ذلك ، وكان دخول هذه اللغة إلى المنطقة قد تم بصورة طبيعية وبتدرج وثبات ، فلم تسود اللغة العربية في المنطقة نتيجة ثورة أو قرار سياسي مفاجيء وإنما تغلغلت في المجتمع بتفاعل عوامل اجتماعية وحضرية مما ضمن لها الرسوخ والبقاء ، ونتناول أبرز هذه العوامل فيما يأتي .

المبحث الأول :

أبرز العوامل التي ساعدت في انتشار اللغة العربية في الممالك الإسلامية التشادية

1-   هجرات القبائل العربية :

إن وجود بحيرة تشاد بمياهها العذبة في منطقة تشاد جعلها منذ قديم الزمان ، موضع جذب شديد للهجرات القبلية ، والتي كان من ضمنها هجرات القبائل العربية ، حيث ( سكن العرب واللغة العربية منطقة الساحل الإفريقي قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بقرون طويلة ، حيث تعاقبت الهجرات نحو بحيرة كوار/ تشاد ، على وجه الخصوص لموقعها الإستراتيجي في قلب القارة الإفريقية (18 ) إلا أن الهجرات العربية إلى المنطقة والتي حدثت بعد الإسلام كانت هي الأكثر تأثيرا ، وهي التي صبغت المنطقة بطابعها الخاص ، فقد بدأت القبائل العربية ( تنحدر من الجزيرة العربية متجهة صوب إفريقيا منذ النصف الثاني من القرن الأول الهجري بعد فتح مصر(19) وهناك أسباب عديدة ساهمت في تحريك هذه الهجرات التي كانت تحمل معها حضارتها وثقافتها ولغتها ( فمنها ما كان سياسيا كما حدث في عهد الأمويين والعباسيين، وهكذا في عهد الفاطميين – القرن الثالث الهجري وهكذا حتى عهد المماليك ، وبعض تلك الهجرات ناشيء عن أسباب أخرى تلقائية ، إما طلبا للمرعى والعيش، أو تخلصا من سيطرة السلطات الحاكمة إذ ذاك في مصر ، بعد سوء الحالة (20) وتصنف القبائل العربية التي استوطنت في تشاد في ( مجموعتين رئيسيتين ، هما :

1-  مجموعة ( الحساونة ) التي جاءت إلى منطقة بحيرة تشاد عن طريق شمال إفريقيا خلال القرنين التاسع والعاشر الميلاديين وهي تضم عددا كبيرا من القبائل نذكر منها: الأصعالي، والدقنة وأولاد محارب ، وأولاد سرار ، وأولاد علي ، وبني وائل ، وبني عامر ، والعلوان ، وهي تنتسب إلي أوده بن قالم.

2-  مجموعة ( جهينة) والتي جاءت إلى تشاد عن طريق السودان خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلاديين ، وهي تضم عددا كبيرا من القبائل أكبرها: السلامات: وأولاد راشد والحيماد ، والحريكة ، والجعاتني وخزام ، وبني هلبة ، وهي تنتسب إلى الجنيد بن شاكر بن أحمد الأجزم بن راشد ، الذي يلتقي نسبه بعبدالله الجهني بن العباس)(21).

وقد ظلت الهجرات العربية تغذي المنطقة بدماء جديدة حتى العصر الحديث ومثال ذلك أولاد سليمان الذين هاجروا إلى تشاد من ليبيا في الفترة مابين (1840 – 1930م )(22) ويتضح من ذلك أن هجرات القبائل العربية إلى منطقة تشاد تتابعت لقرون عديدة ، وكان يرفد بعضها بعضا، كما أن هجرات القبائل العربية المبكرة والمتتالية إلى تشاد، جعلت هذه القبائل جزءا أساسيا وأصيلا في التركيبة السكانية في المنطقة ، خاصة وأن هذه القبائل العربية تميزت بخصلتين، هما: المحافظة على ثقافتها ولغتها, والاندماج في المجتمع المحلي ، ويشير  الدكتور عبدالرحمن عمر الماحي إلى هذا بقوله ( وقد احتفظ العرب في تشاد بلغتهم وعاداتهم وتقاليدهم وقيمهم الخاصة على الرغم من تأقلمهم واختلاطهم بالأعراق والمجتمعات المحلية المختلفة (23) ومن ناحية أخرى نجد أن قدوم هذه القبائل من مناطق أكثر تحضرا يجعل خاصية التأثير لديها أقوى من دواعي التأثر ( وأن حالة البدواة التي يعيشها العرب الظاعنون في سهول تلك المنطقة  كانت على درجة عالية من التأثيرات على حركة التغيير والتحول إلى الإسلام ، وهذا أمر له دلالاته التأريخية المهمة ذلك لأن ظعن البدويين وانتشارهم في مساحات واسعة والضرورة التي أملت تفاعلهم مع السكان المحليين أثرت في هذه المجتمعات إلى حد كبير ، وأدت في النهاية إلى قبولهم معتقدات الوافدين وتبنى ثقافتهم وسلوكهم (24) فعدم استيطان القبائل العربية في المدن خاصة في المرحلة الاولى وبقاؤهم في البادية ، كان من العوامل التي أسهمت في جعلهم أكثر تأثيرا في المنطقة ، بسبب الحركة الدائمة التي تفرضها البداوة كما أن القبائل العربية لم يتركز وجودها في تشاد في جهة واحدة ، بل تفرقت في شتى النواحي والمناطق ، وبفضل هذه المقومات انتشرت اللغة العربية انتشارا واسعا في منطقة تشاد.

2-الإسلام:

رأينا أن الممالك السابقة كانت ممالك إسلامية كلها اتخذت الإسلام شرعة ومنهاجا ، ومعلوم أن اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم ولغة الرسول الأمين ، ولغة التراث العلمي والثقافي للأمة الإسلامية ، فكان هذا من أقوى العوامل التي ساعدت على انتشار اللغة العربية وشيوعها في المنطقة ، حيث أصبح تدريس علوم اللغة العربية من نحو وصرف وبلاغة وأدب يحظى بنفس الاهتمام والعناية اللتين تحظى بهما العلوم الإسلامية من تفسير وحديث وفقه، فأصبح المجالان يدرسان جنبا إلى جنب ، بل إن علماء المنطقة أصبحوا يطلقون على علوم اللغة العربية اسم علوم الآلة ، على اعتبار أنها شرط لفهم العلوم الدينية ، كما نجد أن كثيرا من شعائر الإسلام تؤدى باللغة العربية ، مما جعل أهل المنطقة يعتبرون أن معرفة اللغة العربية من الصفات التي تميز المسلم عن غيره ، فأقبلت الشعوب في المنطقة على تعلم اللغة العربية.

وتفرع عن هذا العامل عامل آخر ساهم بدوره في نشر اللغة العربية ، وهو الحج ، إذ لم يكن أداء فريضة الحج مجرد رحلة بالطائرة تستغرق أسبوعا أو أسبوعين كما هو الحال في هذه الأيام، وإنما كان سفرا طويلا يستغرق سنوات وشهورا ، سيرا على الأقدام أو فوق ظهور الدواب ، يتوقف الحاج خلاله في كثير من المدن والقرى التي يمر بها ، وقد يبقى فيها أياما وأسابيع طلبا للاستجمام ، يختلط بأهلها ويتأثر بهم ، وقد عرفت شعوب منطقة تشاد وحكامهم بحرصهم الشديد على أداء هذه الشعيرة منذ القدم ، وكان منفذ القاهرة هو الطريق الشائع، ومن جانب آخر فإن فترة بقاء الحاج في الأماكن المقدسة كانت تطول كثيرا، فيختلط هناك بمختلف القبائل والعلماء مما يترك فيه أثرا عميقا  ولذا فإن ( الحاج غالبا مايتحول إلى داعية إلى الإسلام، فحينما يعود الحاج الإفريقي من بيت الله الحرام بعد رحلة يكتسب خلالها العديد من الخبرات المادية والحياتية والروحية  التي تضفي عليه شيئا من الهيبة حسب العادات الإفريقية المرعية ، وتعطيه درجة عالية من قومه ، وأنهم يتلقون كثيرا من الدروس والعادات والتقاليد خاصة فيما يتعلق باكتساب اللغة العربية والدراسات الإسلامية من علماء الإسلام في الحرمين ، والعلماء الذين يمرون بهم في طريقهم (25).

3-   التجارة والقوافل :

تعتبر منطقة تشاد ملتقى للطرق التجارية العابرة من شمال القارة لجنوبها ومن شرقها لغربها، وكانت الصحراء حافلة بحركة القوافل التجارية التي اختطت لها طرقا تجارية ثابتة ومستقرة ، منها:

1-   طريق يسير من أسوان إلى كسلا ثم إلى دارفور ، وإلى ( وداي) و( باقرمي) و( كانم) و(برنو).

2-  طريق من أسيوط عبر الواحات غربي وادي حلفا ، ثم إلى دارفور ومنها إلى بلاد كانم ، ويمتد هذا الطريق شرقا إلى المدينة المنورة ومكة المكرمة ، وغربا إلى كانو وسكوتو وجاوه وتمبكتو وتوات . وهذا هو الطريق المشهور بدرب الأربعين.

3-   طريق القيروان ورقلة ، غدامس ، توات ، غات ، مرزق ، بلما ، النجيمي.

طريق طرابلس ، فزان ، بلما ، بحيرة تشاد.

4-   طريق فاس ، تلمسان ، غرداية ، توات ، غات ، مرزق ، بلما ، النجيمي (26).

وهكذا نجد أن الصحراء لم تكن مانعة للتواصل بين منطقة تشاد والعالم العربي ، بل كانت خطوط المواصلات تتقاطع فيها وتجوبها في الاتجاهات كلها،

وكانت القوافل التجارية غالبا ماتكون كبيرة تنتظم القافلة الواحدة مئات الجمالة أحيانا، وكانت تحمل منتجات المنطقة من العاج وريش النعام والصمغ وعسل النحل والجلود والماشية والرقيق فقد صدّر التشاديون ( منتجاتهم وثرواتهم الطبيعية إلى البلدان المجاورة ، ودول حوض البحر المتوسط فجذبت انتباه تجار مصر ، وطرابلس ، وبرقة وفزان ، وتونس ومراكش وغيرهم، أما البضائع الواردة فقد ذكر الدكتور عبدالرحمن عمر الماحي (41) اسما منها ويمكن تلخيصها في الأنواع التالية . ملابس ، فرش ، كتب ، طيب ، وروائح ، بهارات ، أسلحة وأدوات الحرب، أدوية (27).

ولم تكن الواردات المادية هي كل ما كانت تجلبه هذه القوافل للمنطقة بل كانت هناك واردات أنفس ، فقد ( كانت هذه القوافل إلى السودان الأوسط : إلى السلام واللغة العربية والحضارة الإسلامية ) (28).

4-الموقع:

إن وجود منطقة تشاد قريبا من الأقطار العربية كان من العوامل التي ساعدت على انتشار اللغة العربية فيها ، فهي تجاور السودان وليبيا مباشرة ، كما أنه لايفصل بين حدودها مع مصر إلا مثلث صغير جدا من الأراضي السودانية ، وكذا حدودها مع الجزائر يفصلها مثلث صغير من الارض الليبية ،  وهذا ماسهل عمليات ، الهجرات العربية التي ذكرت سابقا ، ومازال البدو الرحل في تشاد يتنقلون بين حدود تشاد والسودان وليبيا والجزائر بكل يسر وسهولة وبصورة طبيعية ، أما تاريخيا فإننا نجد أن الممالك والسلطنات التي نشأت في هذه الدول كان حدود بعضها يمتد ليشمل أماكن تدخل ضمن أراضي الدول الأخرى حاليا.

فالجوار الجغرافي غالبا مايؤدي إلى اشتراك القبائل وتداخلها بين الدول ، وإلى تأثير وتأثر وتشابه في العادات والتقاليد ولذ فإن موقع تشاد في البوابة الجنوبية للبلاد العربية ، أهلها لأن تكون موطنا خصبا لامتداد اللغة العربية وانتشارها ، وجعلها ترتبط بجذور تاريخية وعرقية وثقافية مع العالم العربي .

وبجانب هذه العوامل التي أشير إليها ، فإنه مما لاشك فيه أن استخدام الممالك الإسلامية التشادية للغة العربية في التعليم والتخاطب ، وجعلها اللغة الرسمية لها كان من أهم العوامل التي ساعدت في انتشار اللغة العربية ورسوخها في المنطقة ، وهذا ماسيعرض في الفقرات التالية .

المبحث الثاني :

البعد الثقافي والاجتماعي للغة العربية في الممالك الإسلامية التشادية :

منذ أن عرّف ابن جني اللغة ، بأنها ( أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم ) تتابعت الدراسات الاجتماعية التي تركز على الوظيفة الاجتماعية للغة ، باعتبارها ركناً أساسياً للحضارة ، ويعد اتفاق شعب ماحول لغة واحدة من عوامل استقراره واتحاده .

ونجد أن اللغة العربية قد أدت هذه الوظيفة الحضارية في الممالك الإسلامية التشادية فمع أنها كانت تضم عددا كبيرا من القبائل التي تتحدث بلهجات متعددة إلا أننا نجد أن شعوب هذه الممالك الإسلامية منذ وقت مبكر قد اتخذت اللغة العربية لغة مشتركة للتفاهم بين أفراد القبائل المختلفة، وأصبحت العربية هي اللغة الشائعة والعامة التي ينتقل إليها الناس عند مخاطبة أفراد القبائل الأخرى ، هاجرين لهجاتهم المحلية ، وهذا الوضع بدوره جعل تلك اللهجات تتأثر كثيرا باللغة العربية ، ويدخلها كثير من المفردات والمعاني والأساليب العربية ، وأتاح للعربية الشيوع ، فابن عمر التونسي عندما تحدث عن اللهجات في مملكة وداي عقب على ذلك بقوله ( ولقلة مكثي في بلادهم وكثرة اللغة العربية لم احتج أن اتعلم لغتهم ) (29).

ومكانة اللغة العربية في مملكة كانم – برنو ، لم تكن بأقل من ذلك ، فإنها ( صارت لغة التخاطب والتعامل التجاري بين جميع العناصر التي سكنت بلاد كانم ، فقام على هذا الأساس مجتمع إسلامي متناسق عاش في أمن وصفاء ورخاء ، وخلف لنا تراثا ورصيدا حضاريا مشرفا وباقيا على مر الزمن (30). وبهذا يتضح أن اللغة العربية أصبحت وسيلة أساسية من وسائل التمدن والحضارة في هذه الممالك ،ففي منطقة تشاد كشفت الآثار والحفريات عن بعض الرسومات والأشكال المنحوتة على الصخور ، إلا أنها لم تكشف حتى الآن عن وجود لغة مكتوبة بصورة مكتملة غير العربية ، أي يرجع إليها الفضل وحدها تاريخياً في أنها اللغة التي أقام الشعب من خلالها ممالك متحضرة في منطقة تشاد ، وكانت الكتابة بالخط الكوفي هي المنتشرة وتبع عملية القراءة والكتابة عملية التعليم والدراسة ، وتلى ذلك البحث والتأليف ، حتى نبغ علماء أجلاء في هذه الممالك ، وكان لهم إضافات في علوم الشريعة واللغة ، وما تم العثور عليه من مؤلفات لهم يشهد بذلك شهادة قاطعة ، واشتهرت المنطقة بنبوغ علمائها في  حفظ القرآن الكريم وضبطه ، وقد انتظم التعليم في الكتاتيب والمساجد والحلقات ومنازل العلماء وقصور السلاطين والتجار ، وانتظمت العملية التعليمية في هذه الأماكن ، وأصبح هناك منهج دراسي متبع من خلال كتب ومنظومات معينة متدرجة في شتى فنون العلم ، وكانت عملية التعمق في العلم والتخصص تقوم على مبدأ الرغبة الذاتية ، فعندما يجتاز الطالب المرحلة الأولية يكون له الخيار في التلقي من الشيوخ الذين يختارهم ودراسة التخصصات والكتب التي يميل إلى التعمق فيها ، وكانت الكتب المنتشرة في هذه الممالك هي نفسها التي كانت شائعة في القاهرة وتونس والمغرب ، وكان الطالب يمنح إجازة من شيخه في أي فن أتقنه أو أي كتاب أجاده .

وبعد رسوخ العملية التعليمية في الممالك الإسلامية التشادية أصبحت للعلماء ألقاب حسب تدرجهم العلمي ، ذكر الدكتور فضل كلود منها : مدرس ، وفكي ( فقيه ) ، وشيخ ، ومالم ( معلم ) ، وسيد ، وقوني : ( وهو لقب للماهر بالقرآن الكريم حفظا وضبطا ) (31) ، وقد ارتقى التعليم في هذه الممالك إلى درجة جعلت الرحالة الألماني  غوستاف ناختيغال الذي زار هذه الممالك في سبعينيات القرن التاسع عشر ، يقول : والتعليم في هذه المنطقة لايقل عما هو موجود عندنا (32).

وقد اتخذت الممالك الإسلامية مبدأ إجبارية التعليم للصغار ، وأصبح التعليم أهم الطرق التي يسلكها أفراد الطبقات الفقيرة في المجتمع لبلوغ أرفع المناصب في الدولة ، فقد كان العلماء يحظون بإجلال كبير من السلاطين والأمراء والمسئولين والتجار وعامة الشعب ، وكانوا يتولون مناصب كبيرة منها مناصب القضاء ، بل كانت مقصورة عليهم وكان أرفعها منصب قاضي القضاة ، كما وجدت مناصب أخرى لهم مثل منصب الإمامية الذي يقوم صاحبه بجانب إمامة الصلوات والجمع والأعياد بتولي قضايا الأحوال الشخصية ، ومنصب صاحب الجامع الذي يعتبر صاحبه المسئول عن المعهد العالي الرسمي في المملكة ، بجانب اختصاصه بالفتوى وكان كثيرا ماتوكل السفارات للعلماء ،  وكذا فض المنازعات وإصلاح ذات البين بين القبائل المتناحرة ، وكان العلماء يحرضون دائما على إسداء النصيحة والموعظة الحسنة للحكام (33) ، وكان كبار العلماء يعتبرون من أخص مستشاري السلطان .

ونخلص من ذلك إلى أن اللغة العبية التي أصبحت وسيلة للقراءة والكتابة في الممالك الإسلامية التشادية أدت إلى ازدهار العملية التعليمية ونشاطها ، مما دعم المكونات الحضارية في هذه الممالك.

وبجانب ما سبق فإننا نجد أن استخدام ، اللغة العربية في العملية التعليمية قد أتاح لمجموعات كبيرة من طلاب العلم الالتحاق بالمراكز العلمية الشهيرة في شرق وغرب العالم الإسلامي من أجل التبحر في فنون العلوم المختلفة ، حيث كانوا يقصدون ، الحرمين الشريفين في الحجاز ، والأزهر الشريف في القاهرة ، وجامع الزيتونة بتونس ، وجامع القرويين في المغرب ، وغير ذلك من المراكز العلمية التي كانت تعج بالعلماء والطلاب .

وقد عاد كثيرمن هؤلاء الطلاب المهاجرين إلى أوطانهم بعد أن تبحروا في العلوم ،فأصبحوا قادة للحياة العلمية والفكرية وروادا لها ، وانتجوا كثيرا من المؤلفات والكتب باللغة العربية ، التي كانت خير دافع للحياة العلمية والثقافية في هذه الممالك الإسلامية .

وأصبحت اللغة العربية هي لغة اللقاءات الثقافية والاجتماعية في هذه الممالك ، أثناء احتفالات الأعياد والمولد ومناسبات الزواج والوفاة والختان ، حيث يكون إحياء هذه الليالي بقراءة القرآن الكريم وترديد القصائد والمنظومات في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم وكانت القصائد التي تنشد غاية في  البلاغة والفصاحة ، وغالبا مايردد الحضور بعض المقاطع مع المنشدين ، مما ولد حسا عاما لدى شعوب هذه الممالك تجاه هذه المقطوعات .

وكذا  كانت اللغة العربية هي لغة المعاملات التجارية والتعامل في الأسواق ، بحكم أنها اللغة الوحيدة المشتركة بين جميع القبائل ( فنظروا لانتشار لغة القرآن في المجتمع المسلم حول حوض تشاد ، فإن لغة التجارة هي اللغة العربية ، فقوافلهم لاتحمل الملح والسمن والملابس والتوابل والعطور فحسب ، ولكنها تحمل معها في أغلب الأحيان أحد العلماء .. هذا بالإضافة إلى حملها للغة العربيةفهي لغة التجارة بدون منازع في هذه المنطقة ، حتى أن أهل القافلة يعلمون من لا يتقن العربية منهم في الطريق قبل الوصول إلى الأسواق ( 34).

ولذا فإن اللغة العربية أصبحت وسيلة من وسائل الوئام الاجتماعي ورابطا بين القبائل والجماعات الموجودة داخل الممالك الإسلامية التشادية وعاملا  من عوامل الوحدة والازدهار .

المبحث الثالث :

البعد الحضاري للغة العربية في المجال السياسي في الممالك الإسلامية التشادية

رأينا أن بحيرة تشاد بمياهها العذبة ، ومايوجد في المنطقة من وديان وأنهار ومراع خصبة ، كانت من أهم عوامل الاستيطان والتمدن وجعلت المنطقة موطن جذب لشعوب متباينة ، فقد ( كانت منطقة حوض بحيرة تشاد بحكم موقعها الإقليمي نقطة جاءت إليها مجموعات مختلفة من السكان ، كانوا من الإفريقيين الأصليين أو من الشماليين والشرقيين من العرب والآسيويين وغيرهم ، واختلط بعض هؤلاء ببعض عن طريق الزوج أو السراري ، وكان نتاج ذلك مجموعات جديدة ) (35) فمنطقة تشاد من المناطق التي تعج بالقبائل والأجناس بحكم موقعها في وسط القارة الإفريقية مما يجعلها عرضة للهجرات القبلية من شتى الاتجاهات ، ومع ذلك رأينا أن اللغة العربية اتخذت طريقها رويدا رويدا حتي سادت في المنطقة نتيجة لاستيطان القبائل العربية المبكر في المنطقة ودورها البارز في تكوين الممالك الإسلامية فيها ، ومع دخول الإسلام ترسخت اللغة العربية في المنطقة وفرضت ريادتها ، مما جعل هذه الممالك تتخذ اللغة العربية لغة رسمية لها في دواوينها ، وشتى شؤونها السياسية ، وظلت هي اللغة الرسمية للكيانات السياسية في تشاد حتى مطلع  القرن العشرين عندما حاول الاستعمار الفرسني إزاحة هذه اللغة وإبادتها ، وفرض اللغة الفرنسية ، من خلال فرنسة التعليم والنظم السياسية والإدارية والاقتصادية بشتى الوسائل ، ومع كل هذا فإن اللغة العربية لأصالتها ورسوخها في المجتمع التشادي ، أطلت قوية بعد عقود من المؤامرات والدسائس الاستعمارية الخاسرة .

وقد كانت اللغة العربية بتلك المعطيات من أهم عوامل نجاح وتطور الممالك الإسلامية التشادية التي اتخذتها لغة رسمية لها ، حيث كانت هذه اللغة في تلك الممالك لغة :

1- الرسائل والدواوين الرسمية .

2- لغة التعليم والثقافة .

3- لغة الاتصال والتفاهم والتبادل الثقافي والحضاري (36).

وعلماء الاجتماع يعتبرون وحدة اللغة من أهم عوامل تماسك الكيانات السياسية ، وعدم تمزقها ، وربما  يحدث من صراعات وحروب في بعض البلاد حاليا لأسباب لغوية خيردليل على ذلك ، مثل الأمازيقية والكردية والألبانية وغيرها ، ولذا فإن الممالك الإسلامية التشادية باعتمادها اللغة العربية لغة رسمية لها ضمنت عاملا من عوامل الوحدة والحضارة ، وكانت هذه اللغة خير وسيلة لنشر الأوامر والتعليمات والمراسيم السلطانية ، فقد ذكر ابن عمر التونسي أن وزراء سلطان وداي الثمانية يرفعون تقارير مكتوبة إلى السلطان يوضحون فيها أهم ماقضوا فيه من أمور ، وما قاموا به من أعمال ليعلم مافعلوه (37) ، ومن أجل ذلك كان لكل أمير أو مسؤول في هذه الممالك شيخ يصحبه ، ويكون كاتبا له ، وحرص على ذلك التجار أيضا .

وكذلك نجد أن المحارم السلطانية في الممالك الإسلامية التشادية كانت تصدر باللغة العربية ، والمحرم : ( هو المرسوم السلطاني الذي يصدره الملوك لصالح من يرضون عنهم من العلماء والأقربين والمخلصين من الموظفين ، وقد اشتهر ملوك كانم بإصدار هذه المراسيم السلطانية .. وقد ترجم المستشرق بالمر  عشرين منها في كتاب مذكرات عن السودان )(38) . والمحارم شائعة أيضا في مملكتي باقرمي ووداي .

كما نجد أن هذه الممالك قد استخدمت اللغة العربية في مراسلاتها الخارجية لتوطيد علاقاتها السياسية  والثقافية مع الممالك والأقطار العربية والإسلامية فقد كان لمملكة كانم علاقة وطيدة بالحفصيين في تونس والليبيين في طرابلس والمصريين في القاهرة ، وكذلك بملوك مالي .

وتأتي في هذا المجال الرسالة التي أوردها القلقشندي والتي بعثها سلطان كانم عثمان بن الحاج إدريس إلى الظاهر بن سعيد برقوق حاكم مصر  عام 794 هـ / 1391م يشكو فيها قبيلة جذام العربية لعدوانها على أهل بلده (39) .

والرسالة التي بعثها السلطان اومي دونامة عام 657 هـ / 1257 م إلى المستنصر الحفصي ابي عبدالله محمد سلطان الدولة الحفصية ، مع بعض الهدايا ( وكان من بين الهدايا التي حملها رسول السلطان ، زرافة تدعى (شيقا ) وقد أثارت الحيرة والعجب بين سكان تونس ، وابتهج لها العامة وامتلأت ساحة وسط المدينة بجمهور الناس الذين سعوا لرؤيتها ، إذ كانت بالنسبة لهم  حيوانا جديدا وغريباً لم يألفوه من قبل (40 ) وغير ذلك من الرسائل  التي دعمت علاقات الممالك الإسلامية التشادية بما جاورها ، ومكنها من التواصل مع محيطها .

وقد حرص ملوك الممالك الإسلامية التشادية على تدعيم علاقاتهم الثقافية في الدول الإسلامية العربية ، من خلال بناء المدارس والبيوت والأروقة ، التي ينزل فيها الطلاب المهاجرون من تلك الممالك لطلب العلم في تلك البلاد، يقول القلقشندي : ( إن أهل كانم بنوا مدرسة للمالكية بالفسطاط ينزل بها وفودهم ) (41) . وكان من السلاطين الذين اعتنوا بنشر العلم السلطان دونامة ابن دابالامي ( ت 1259 ) سلطان كانم الذي بنى مدرسة ابن رشيق في القاهرة ، وكان السلاطين من بعده يبعثون إليها في غالب السنين بالمال (42) كما أنه قام ببناء ( رواق ) بالقاهرة لنفع الواردين من مواطنيه من الطلاب والعمال والحجاج ينزلون فيه طيلة وجودهم بالقاهرة (43) .

وقد سارت مملكة وداي على نفس هذا المنهج حيث نجد في الأزهر رواق صليح وهو من أعمال السلطان جودة ( 1747 – 1795) )( وهو الذي بنى الوقوف بمكة المكرمة والمدينة المنورة وبيت المقدس وبنى الرواق في مصر ) (44).

وأخيرا فإن ملوك الممالك الإسلامية التشادية قد استخدموا اللغة العربية في تسيير شؤون مملكاتهم الإدارية ، وينقل لنا ابن عمر التونسي وصفا للطريقة التي يفتتح بها سلاطين وداي جلساتهم ، حيث تبدأ الجلسة بتحية السلطان لأهل المجلس باللغة العربية ويتولى إعلانها الناطق باسمه حيث يقول: السلطان يسلم عليك ياقاضي السلطان .. يسلم عليكم ياعلماء السلطان .. يسلم عليكم يا أشراف السلطان .. يسلم عليكم ياكماكلة السلطان .. يسلم عليكم ياتراقنة السلطان .. يسلم عليكم يا أمناء السلطان.. يسلم عليكم ياملوك الجبال ، وهكذا إلى أن يقول السلطان يسلم عليكم ياحوالي ( وارا ) كلكم لعلكم طيبين بارك الله لكم بالعافية (45) وكذلك فإن جميع الدواوين كانت تدون باللغة العربية وكذا  الأوامر التعليمات وشؤون الإدارة كافة .

الخاتمة والنتائج :

استعرض هذا البحث نشأة الممالك الإسلامية التشادية الكبرى ، وهي مملكة كانم برنو ، ومملكة باقرمي ، ومملكة وداي ، مبينا أثر القبائل العربية في تكوين هذه الممالك التي جعلت الشريعة الإسلامية منهاجا لها في شؤونها القانونية والتشريعية ، كما اتخذت اللغة العربية لغة رسمية في دواوينها وإداراتها ، ومن ثم استعرض البحث أبرز العوامل التي ساعدت في انتشار اللغة العربية ورسوخها في هذه الممالك ، وهي هجرات القبائل العربية والدين الإسلامي ، والتجارة والقوافل ، وموقع تشاد الجغرافي الاستراتيجي فقد تكاتفت هذه العوامل في توثيق صلة هذه الممالك باللغة العربية التي بدورها كانت خير وسيلة ساهمت في تحقيق الجوانب الحضارية في النواحي الثقافية والاجتماعية والسياسية في هذه الممالك ، واتضح من الدراسة أن اللغة العربية في تشاد لغة أصيلة وراسخة ، وذات جذور ثابتة ورغما عن الحرب الشعواء التي شنها الاستعمار الفرنسي ضدها من أجل إزالتها وإبادتها بقيت اللغة العبية حية في وجدان الشعب التشادي لأنها لغة تاريخه وحضارته وتراثه حتى تم الاعتراف باللغة العربية لغة رسمية للدولة التشادية في دستور البلاد الذي اعتمد بعد استفتاء شعبي عام 1996م فأصبح للبلاد لغتان رسميتان هما العربية والفرنسية .

التوصيات :

يوصي هذا البحث بضرورة بذل جهود مضاعفة من أجل تدعيم مكانة اللغة العربية في تشاد حتي تتمكن من استعادة ريادتها الحضارية ، من خلال دعم المؤسسات الجامعية العربية ومراكز البحوث، التي نشأت في السنوات الأخيرة ،بالإضافة إلى مراحل التعليم الأخرى ، خاصة وأن غالبية  المدارس العربية هي مدارس  أهلية بسبب الإرث الاستعماري الذي حرص على تدمير التعليم العربي وتهميشه ، وفي ظل الأوضاع السياسية الراهنة ، فإن الأبواب مفتوحة للجميع لدعم مثل هذه المؤسسات في ظل نظام الحرية والديمقراطية القائم اليوم .

تأليف الأستاذ محمد مدني فضل

الأمين العام لجامعة الملك فيصل في تشاد

الهوامش :

  1. الماحي : عبدالرحمن عمر ، تشاد من الاستعمار حتى الاستقلال  ( 1894 – 1960 ) الهيئة المصرية العامة للكتابة ، القاهرة 1982م ، ص 13
  2. عبدالجليل : الشاطر بصيلي ، تاريخ وحضارات السودان الشرقي والأوسط من القرن السابع إلى القرن التاسع عشر الميلادي ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة 1972م ، ص 412
  3. المرجع السابق ، ص 415
  4.     فضل كلود ، الثقافة الإسلامية في تشاد في العصر الذهبي لامبراطورية كانم ( 600 – 1000هـ ،/1200 – 1600 م) منشورات كلية الدعوة الإسلامية ، طرابلس 1998م ص 9
  5. ابوشعيشع ، مصطفي علي بسيوني ، برنو في عهد الاسرة الكانمية ( 1814- 1969 ) دار العلوم للطباعة والنشر ، الرياض 1984م ، ص 15- 16
  6. عبدالجليل ، الشاطر بصيلي ، مرجع سابق ، ص 419
  7. ابوشعيشع : مصطفي علي ، مرجع سابق ، ص 16
  8. الماحي : عبدالرحمن عمر ، مرجع سابق ، ص 16
  9. النوي : ابراهيم صالح الحسيني ، تاريخ الإسلام وحياة العرب في امبراطورية كانم برنو ، شركة مكتبة ومطبعة مصطفي البابي الحلبي واولاده  ،/ القاهرة  ، 1876م ، ص 55

10. المرجع السابق ، نفس الصفحة

11. الماحي ، مرجع سابق ، ص 17

12. ناختيغال :غوستاف ، تاريخ وداي ، الجزء السابع من كتاب الصحراء والسودان ، ترجمة : نادية كركي وهنري لودري ، انجمينا 1987م ص 4

13. النوي ، ابراهيم صالح ، مرجع سابق ، ص 51

14. ناختيغال : غوستاف ، مرجع سابق ، ص 6

15. الماحي ، مرجع سابق ، ص 17

16. النوي / ابراهيم صالح ، مرجع سابق ، ص 53

17. الماحي، مرجع سابق ، ص 21

18. الماحي : عبدالرحمن عمر، ( مساهمة القوافل التجارية في نشر اللغة العربية والحضارة الإسلامية في منطقة الساحل الإفريقي، بحث ، القي في ندوة ( التواصل الثقافي والاجتماعي بين الأقطار الإفريقية على جانبي الصحراء ، نظمتها كلية الآداب بتطوان وكلية الدعوة الإسلامية بطرابلس ، منشورات كلية الدعوة الإسلامية ، طرابلس 1999 ، ص 65

  1. 19.  النوي / مرجع سابق ص 18

20. المرجع السابق ص 27

21. الماحي : عبدالرحمن عمر ، المجتمع التشادي في عهد الاحتلال الفرنسي ( 1981- 1960 ) الجريسي للكمبيوتر والطباعة والتصوير ، القاهرة ، 1997 ، ص 58 – 59

22. برشم : نورين مناوي ، تشاد بين التحديات والآفاق ، مطبعة الزحف الأخضر ، طرابلس ، د ت ، ص 50

23. الماحي : المجتمع التشادي ، مرجع سابق ، ص 59

24. بخيت :  عبدالحميد محمد أحمد ( بعض سمات  وديناميكية الحركة التاريخية في علاقتها مع عمليات نشر الإسلام والتعريب في سلطنة وداي ) بحث قدم في ندوة : ( اللغة العربية في تشاد الواقع والسمتقبل ) نظمتها جامعة الملك فيصل ،بالتعاون مع رابطة الجامعات الإسلامية ، في الفترة مابين 21- 24 يناير 2001م ، ص 13

25. ايوب: محمد صالح ، الدور الاجتماعي والسياسي للشيخ عبدالحق الترجي في دار وداي شاد ( 1853- 1917 ) جمعية الدعوة الإسلامية العالمية – طرابلس 2001 ،ص 82 – 83

26. الماحي ، تشاد من الاستعمار حتي الاستقلال ، مرجع سابق ، ص 41

27. انظر : المرجع السابق ، نفس الصفحة

28. الماحي ، مساهمة القوافل التجارية ، مرجع سابق ، ص 67

29. التونسي : محمد بن عمر ، رحلة إلى وداي ،تحقيق ، عبدالباقي كبير ، شركة مناكب للنشر ، الخرطوم 2001 ، ص 104

30. الدكتور ، فضل كلود ، مرجع سابق ، ص 9

  1. 31.  كلود ، المرجع السابق ، ص 196 – 199

32. ناختنينغال غوستاف السودان والصحراء ، ترجمة ، ترجمة عبدالحميد محمد أحمد بخيت ، ص 20

33. عوام : الطيب علي ، العلاقة بين العلماء والسلاطين في مملكة وداي ، بحث الدبلوم الدراسات المعمقة من قسم التاريخ والحضارة بقسم الدراسات العليا بجامعة الملك فيصل بتشاد ، العام الجامعي 2001 / 2002م ، ص 38

34. ايوب : محمد صالح ، الدور الاجتماعي والسياسي ، مرجع سابق ، ص 92 – 93

35. المرجع السابق ، نفس الصفحة

36. محمد ” ادم ادريس ( العربية لغة الممالك التشادية ) بحث القي في ندوة : ( التواصل الثقافي والاجتماعي بين الأقطار الإفريقية على جانبي الصحراء نظمتها كلية الآداب بتطوان وكلية الدعوة الإسلامية بطرابلس ، منشورات كلية الدعوة الإسلامية ، طرابلس 1999،ص 112

37. التونسي، محمد بن عمر ، مرجع سابق ، ص 199

38. الماحي : تشاد من الاستعمار حتي الاستقلال مرجع سابق ، ص 17

39. القلقشندي ، احمد بن علي ، صبح الأعشى في صناعة الإنشاء ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1987 م / ج 8 ، ص 166

40. الدكو ، مرجع سابق ، ص 253 نقلا عن : Palmer the burnu sahara and Sudan eit p.185

41. القلقشندي ، مرجع سابق ، ج 5 ، ص 218

42. الدكو ، مرجع سابق ، ص 110

43. ايوب : مرجع سابق ، ص 57

44. التجاني : مكي عبدالله ، طريق الهدى والرشاد في التصوف القويم وتاريخ دخول الإسلام والطريقة التجانية في تشاد ، مطبعة التمدن ، الخرطوم ، د ت ، 97

45. التونسي ، مرجع سابق ،  246

 .